قتل التتار في إيطاليا وهزم نابليون في الشام
مرض الطاعون.. حكايات مؤلمة في إبادة البشر
نعيم محمد عبدالغني
مرض الطاعون وباء قديم أهلك البشر منذ آلاف السنين، وفي هذا الهلاك أرقام تشيب لها الولدان، وقصص تقشعر منها الأبدان، يقول الدكتور خالص جبلي في كتابه: مخطط الانحدار وإعادة البناء تحت عنوان الطاعون رعب التاريخ: (بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري، فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون، فهو الذي قوض دولاً بكاملها، وأفنى شعوباً بأسرها، ومسح مدناً من وجه الأرض، وصدع حضارات عظيمة، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع).
أما عن تاريخ ظهور المرض فيذكر الدكتور خالص في كتابه السابق فيقول إن بداية المرض كانت في مدينة القرم التي هي خارج إيطاليا والتي تحصن بها البنادقة من هجمات التتار الذين حاصروهم فترات طويلة حتى انتشر فيهم الطاعون فرمى التتار مدينة البندقية بجثث الذين ماتوا بالطاعون في أول حرب بكتريولوجية عرفها التاريخ وساعد في انتشار المرض عدم انتشار النظافة الشخصية بين الفريقين فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافئ التي وصلوها، وبذلك نشروا المرض في كل أوروبا، فلم ينته عام 1352م إلا وكانت مدن أوروبا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدنمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة.
ونجد قصصا كثيرة مؤلمة عن هذا المرض أيضا، فنقرأ مثلا في كتب السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الطاعون فقال: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام.
فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم، ورجس على الكافرين) الحديث أورده الإمام السيوطي في الجامع وهو في مسند الإمام أحمد. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: (الطاعون شهادة لكل مسلم) وفي البخاري عن عائشة: (الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع له الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
وإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الطاعون لم يدخل المدينة وبأنه سيدخل دمشق إعجاز ودليل على نبوته فالطاعون لم يدخل المدينة حتى يومنا هذا وإنما دخل دمشق بعدها بفترة قليلة، قال السيوطي في الجامع الصغير: «وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه إخبار عن عدة مغيبات، وقد وقع الطاعون في دمشق منذ قرن تقريبا، واستشهد فيه الكثير» وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الطاعون والدجال لا يدخلان المدينة فقال في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (على أنقاب المدينة ملائكة.. لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).
ويعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- إشارة عن تاريخ المرض وحقيقته والوقاية منه فيقول في الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم: (الطاعون بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها).
ثم يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض الطاعون فيقول في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط وقال عنه السيوطي في صحيح الجامع بأنه حسن: (الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات فيه مات شهيدا، ومن أقام فيه كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف).
ويبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن انتشار الفاحشة من أسباب انتشار مرض الطاعون فيقول: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).
وفي الذين يموتون من المسلمين بمرض الطاعون وهم على فراشهم يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون من الطاعون فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا فيقضي الله بينهم فيقول ربنا: انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين فإنهم منهم ومعهم فينظرون إلى جراح المطعونين فإذا جراحهم قد أشبهت جراح الشهداء فيلحقون بهم).
تلك بعض الأحاديث التي تحدثت عن مرض الطاعون والتي فيها إشارات مجملة لأسبابه منها انتشار الفواحش، وكيفية الوقاية منه، وجزاء من يصاب به من المسلمين صابرا محتسبا.
وفي العام 18هـ وهو عام الرمادة أصيب بالطاعون خلق كثير يقاربون ثلاثين ألفا كما في بعض الروايات، وبدأ انتشار المرض من قرية فلسطينية اسمها عمواس وبدأ ينتشر في بلاد الشام ولذا سُمي بطاعون عمواس، ومن أبرز الصحابة الذين ماتوا به أمير الجيوش الإسلامية الفاتحة في هذا الوقت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح.
وفي بلاد الشام أيضا مات جند كثير من أنصار نابليون بعد حصار عكا شهرين ليولي بعدها مدبرا ولم يعقب في قصة تقول عنها كتب التاريخ: (وجاء الجيش الفرنسي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا.. ووصل بونابرت في 16 مارس (1799م) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها.. وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جرَّاء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً فصمم على العودة إلى مصر).
وبعد أن استشرى الطاعون في جند فرنسا شاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح وإن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه وإن الحكمة والمحبة تقضيان بالإجهاز عليهم وتعجيل وفاتهم ساعات، وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل بموتهم.
لقد كان الجندي من حملة نابليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت في معارك لا تُحصى، يسقط من عدو مجهول لا يراه، ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن!! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب، يغلي من الحرارة، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب، زائغ النظرات متشنج الأطراف مربد الوجه مكفهر القسمات يزحف إليه الموت بسرعة، ينفث قشعاً مملوءاً بالدم، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ(الموت الأسود)، فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه.
جاء في كتاب قصة الحضارة لول ديورانت تحت عنوان الموت الأسود: (ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فقد أزعج أوروبا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر وإحدى وأربعين سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر.. ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسو على مرسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألفا ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً، وفي أوروبا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع (ربع سكان العالم المتحضر) وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض.. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل (الفلاجلان) الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم.. واستمع أناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة).
ويبقى عام 1347م هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوروبا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع، وتتصحر أوروبا عملياً، بل وتعاني إمكانية نقل التراث المعرفي للأجيال القادمة، وتحتاج إلى ما يزيد على مئتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني ثم يذكر ول ديورانت بعض إحصاءات الوفيات بسبب مرض الطاعون في أوروبا فيقول: إن الوفيات بلغت 4000 من الطاعون الدملي في بازل 1563-1564، وإن %25 من سكان فريبورج –أم- بريزو ماتوا بالطاعون 1564، و9000 في ردستوك، و5000 في فرانكفورت 1565، 4000 في هانوفر، و6000 في برونزويك 1566 وعزا السكان المذعورون مثل هذا الطاعون إلى دس السموم عمداً. وفي فرانكشتين في سيليزيا أحرق 17 شخصاً أحياء حتى الموت للاشتباه في أنهم دسوا السم. وكانت وطأة الطاعون الدملي شديدة جداً في فرانكفرت في 1604 حتى لم يعد هناك من الرجال من يكفي للقيام بدفن الموتى. وتلك مبالغات واضحة، ولكن يروى عن مصادر موثوقة أنه بسبب الطاعون الدملي في إيطاليا 1629-1631 مات في ميلان 86 ألفاً، وفي جمهورية البندقية ما لا يقل عن 500 ألف، وفيما بين 1630-1631 كان عدد ضحايا الطاعون مليون شخص في جنوب إيطاليا وحده، وقلما سار معدل الإنجاب عند النساء مع شدة الدهاء وسعة الحيلة في إزهاق الأرواح. وضوعفت آلام الوضع بتزايد عدم جدواه. وكانت نسبة الوفيات في الأطفال تبلغ خمس المواليد قبل إتمام السنة الثانية من العمر وكانت الأسر كبيرة والسكان قليلين.
تلك قصص عن مرض الطاعون المؤلمة، نسأل الله أن يقينا شره، وأن يبعده عن البشر فكفاها أوبئة وأمراضا وفقرا، وإلى لقاء مع حكاية طبية أخرى.
http://www.alarab.com.qa/details.php...o=550&secId=23